أهلا بكم في مدونة الدكتور محمود إسماعيل صالح

الجمعة، 27 ديسمبر 2013


اللغة والهوية : منظور لساني اجتماعي

د. محمود إسماعيل صالح

أستاذ اللسانيات التطبيقية
المقدمة :

في دراسة قام بها باحثان في اللسانيات الاجتماعية في القاهرة ، طلب الباحثان من مجموعة من المصريين إعطاء رأيهم في متحدثين بالعربية الفصحى وبالعامية المصرية وبالإنجليزية بلكنة مصرية من حيث عدة صفات ، أهمها: الذكاء والقيادة والتدين والمحبوبية . وقد أورد الباحثان النتائج التي نلخصها فيما يلي:

حصل المتحدث بالفصحى أعلى الدرجات في جميع الصفات الأربع ، يليه المتحدث بالإنجليزية المصرية ، ثم المتحدث بالعامية المصرية ، علما بأن الاصوات الثلاثة كانت لنفس الأشخاص (دون علم المقيمين بذلك ، حيث استعملت طريقة التعمية المتبعة في مثل هذه الدراسات) وكانوا يتحدثون عن موضوع محايد عاطفيا ، حتى لا يتأثر المقيمون بموضوع الحديث.
 


من مثل دراسات النظرة إلى اللغة أو الاتجاه اللغوي language attitude، كما تسمى ، ندرك مدى ارتباط اللغة الوثيق بالهوية من منظور اجتماعي . ولا شك أننا جميعا مررنا بتجربة الحكم على كثير من الناس من لغتهم وطريقة حديثهم . فهذا مثقف وهذا جاهل وهذا أمي والآخر متعلم ... إلى غير من الصفات التي نضفيها على المتحدثين ، مما يؤيد أمثال الدراسة التي بدأنا الحديث بها.

ويقودنا هذا إلى السؤال الملح "ما ذا نقصد بالهوية؟" للإجابة عن هذا السؤال يمكننا القول بأنه "الانتماء إلى فئة قومية أوقبلية أو دينية أو ثقافية أو سياسية لها سمات مشتركة تربط بينها." من ناحية أخرى يمكننا القول أيضا بأن هويَة الشخص الفردية تكمن في الإجابة عن السؤال "من هذا أو هذه؟" حيث تكون الإجابة: "هو أو هي كذا وكذا" ، من ثم ربما اشتق مصطلح "الهُويَة".

إذاً ، هناك شقان لمفهوم الهوية: شق شخصي فردي يتميز به الفرد عن سواه في المجتمع الواحد أوفي مجموعة أكبر من المجتمع ، وشق جماعي تربط الفرد بجماعة معينة قومية أو سياسية أودينية أو ثقافية أو مذهبية فكرية ... إلى غير ذلك.

في المفهوم الجماعي نجد العلاقة الوطيدة بين الفرد أو الهُوَ واللغة . فحينما نقول أن فلانا عربي أو عروبي ، إنما نشير إلى اللغة غالبا بوصفها المؤشر الأول إلى انتمائه القومي . وحينما نقول أن فلانا بريطاني مثلا أو فرنسي فإننا نجمع بين مؤشرين للهوية ، هما اللسان والموطن ، حتى وإن لم تكن اللغة صراحة إحدى خصائص الهوية الوطنية . فالبريطاني رسميا ليس الناطق بالإنجليزية البريطانية مثلا ، بل هو شخص يحمل الجنسية البريطانية ، بغض النظر عن انتمائه الإثني أو الديني أو حتى اللغوي. مع ذلك نجد أننا نصنف هذا الفرد على المستوى غير الرسمي بناء على لغته التي نعتبرها عنوانا لهويته.

اللغة والفكر والثقافة:

مما لاشك فيه أن الفكر والثقافة جزءان لايتجزآن من الهوية الفردية والجمعية . وقد كانت العلاقة بين اللغة والفكر من جهة واللغة والثقافة من جهة أخرى ومازالت مثار جدل منذ أرسطو وأفلاطون وحتى عهدنا هذا . (وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس من السهولة بمكان أن نفرق بين الفكر والثقافة لارتباطهما الوثيق أحدهما بالآخر.)  نجد أن هناك من يرى بأن اللغة هي التي تتحكم في الفكر والثقافة ، فمن خلال الألفاظ تتكون لدينا المفاهيم ونظرتنا إلى الكون والناس من حولنا منذ أن نتعلم الألفاظ في سن الطفولة . وهذه هي نظرية الحتمية اللغوية التي نادى بها بعض رواد اللسانيات البنوية في الولايات المتحدة الأمريكية ، ونخص بالذكر منهم الثنائي المشهور : وورف وسابير، ولو أن نظريتهما لم تتطرق إلى النمو اللغوي . فهما بنياها على أساس دراستهما لبعض لغات الهنود الحمر في أمريكا .

وقد أثبتت الدراسات اللغوية النفسية الحديثة خطأ هذه الحتمية اللغوية ، فمثلا بناء على هذه النظرية لا يعرف الإنسان من الألوان إلا ما تسميه لغته . وقد أثبتت التجربة العلمية خطأ هذا الزعم ، حيث إن الإنسان يميز فعلا بين كثير من الألوان التي إما لايوجد لها تسميات في لغته أو لا يلم هو بها شخصيا ، كالرجال الذين تقل حصيلة مفرداتهم اللغوية في مجال الألوان عن النساء مثلا من حيث تعدد الألوان وتسمياتها المختلفة. ولكن الواقع أثبت أيضا أن المسميات (اللغة) قد تؤثر فعلا في التفاصيل الدقيقة للألوان وظلالها بين الرجال والنساء، حيث لا يميزكثيرمن الرجال عددا من ظلال الألوان المختلفة التي لا يعرفون مسمياتها . وقد أجريت فعلا على المتحدثين بإحدى اللغات التي يقال أن ليس فيها أكثر من ثلاث أو أربع مسميات للألوان ، وقد ثبت أن المتحدثين بهذه اللغة أثبتوا مقدرتهم على التمييز بين عدد كبير من الألوان التي ليس لها تسميات في لغتهم.

من هنا يمكننا القول بأن هذا يثبت كما ذكرنا بطلان القول بأن اللغة هي التي تتحكم في الفكر أو الثقافة، بل يرى بعضهم أنه ربما يكون العكس هو الصحيح : أي أن معرفة الألوان والتمييز بين ظلالها المختلفة لدى النساء واهتمامهن بذلك مثلا هو الذي جعلهن يلجأن إلى وضع مسميات لها لا يعرفها معظم الرجال.

نرجع إذا إلى القضية الفلسفية حول أسبقية اللغة للفكر والثقافة أم العكس . من الملاحظ أن الثقافة والبيئة هي التي ربما تجعل الإنسان يلجأ إلى البحث عن مسميات (لغة) يعبر بها عن هذه المظاهر الثقافية . والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى . مثلا عندما جاء الإسلام إلى العرب ، وجد المسلمون أنفسهم يستحدثون ألفاظا جديدة أو يغيرون معاني بعض ألفاظهم لتكتسب مفاهيم جديدة ، مثل الطهارة والوضوء والصلاة والزكاة ، ثم الدواوين والخراج والفتوحات ، ثم المصطلحات العلمية والطبية. وقد لجأ العرب أحيانا إلى الاقتراض من لغات أمم أخرى للتعبير عن المفاهيم الجديدة التي طرأت على ثقافتهم الجديدة ، فكانت مصطلحات الديوان والدواوين والاصطرلاب والموسيقى ...

في العصر الحديث ، نجد آلاف المصطلحات الجديدة التي وضعت أو اقترضتها اللغة العربية للتعبير عن مفاهيم أو مخترعات جديدة طرأت على الثقافة العربية .

كذلك لو سألنا شباب اليوم من سكان المدن عن ألفاظ تدل على الإبل أو الخيل ، تبعا لصفاتها الخلقية أو أعمارها ، من مئات الألفاظ التي ترد في بطون المعاجم ، لما وجدنا جوابا منهم على ذلك . لكن الشاب قد يذكر لك مسميات وألفاظا للسيارات ذات الخصائص والصفات المختلفة .

مع ذلك لا نستطيع أن ننكر أثر اللغة في التفكير ، كما لا نستطيع أن ننكر دور الفكر والثقافة في اللغة. وقد يسأل سائل ما علاقة هذا بقضية اللغة والهوية؟ الجواب هو أن جانبا كبيرا من الهوية يرتبط بفكر الإنسان وثقافته ، واللغة هي المفتاح إلى كل ذلك . فنحن حينما نفكر لابد لنا من استخدام اللغة أداة لذلك . وما تعبير "التفكير بصوت مرتفع" إلا مصداق لذلك ، لأننا كيف نفكر بصوت مرتفع ؟ هل للتفكير صوت ؟ الجواب يكمن في كوننا نستخدم اللغة عند التفكير ، فيكون التفكير بصوت مرتفع معناه التلفظ بالكلمات التي تعبر عن الأفكارالتي تجول في خواطرنا.

من الناحية التاريخية ، نجد أن كثيرا من اللغات ارتبطت وترتبط بهويات وثقافات معينة . مثلا نجد الارتباط الوثيق بين النصرانية (الكاثوليكية خاصة) واللغة اللاتينية ، كذلك نجد الارتباط الوثيق بين الثقافة الإسلامية واللغة العربية  (التي تعرف أحيانا بلغة القرآن الكريم الذي تدين له العربية ببقائها عبر العصور الحالكة والمظلمة من تاريخ الأمة العربية) ، من ثم الارتباط العاطفي العميق بين المسلمين واللغة العربية . ونقول هنا الثقافة الإسلامية وليس الدين الإسلامي فحسب ، لأن الثقافة الإسلامية لا يرتبط بها المسلمون فقط ، بل يرتبط بها العرب مسلمين وغير مسلمين ، سواء أدركوا ذلك أم يدركوا. بل إننا نجد عبارات إسلامية محض ، مثل "اللهم صل على محمد" ترد على ألسنة بعض العرب من غير المسلمين ، عند محاولة التذكر لأمر ما مثلا، هذا بالإضافة إلى مئات العبارات الإسلامية المنشأ ، مثل إن شاء الله وماشاء الله ، وبإذن الله .... كذلك نجد أن تراث الفكر العربي لاينفك عن الإسلام والمسلمين ومن عاش معهم ، من عرب وعجم ومسلمين وغير مسلمين . بل والأهم من ذلك دور غير العرب من المسلمين في ترسيخ دعائم اللغة العربية نحوا ومعجما ، كما نعرف من أسماء أساطين النحو والدرس اللغوي العربي ، بدءا بسيبويه ومن هؤلاء الزمخشري والسيرافي وابن جني والفيروزبادي . فلولا انتماء هولاء إلى الهوية الإسلامية لما كان لهم عناية ولا اهتمام بالعربية وعلومها .

إذا انتقلنا إلى علاقة اللغة بالهوية القومية ، نجد أمثلة بارزة لذلك في بروز القومية أو الهوية القومية الألمانية نتيجة لترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية فجعل منها أداة موحدة للمجتمعات التي تعيش فيما يعرف اليوم بألمانيا . كذلك نجد أن اللغة التي كتب بها دانتي كتابه الكوميديا الإلهية كانت السبب في إيجاد الأمة الإيطالية. والأمثلة على هذا الرباط الوثيق بين اللغة والهوية القومية أو الوطنية أكثر من أن تحصى.

ومن البراهين التي تساق لإثبات علاقة اللغة بالهوية ما يذكره الباحثون في اللسانيات الاجتماعية من أن الذين يتحدثون لغة ويلز يرون أنفسهم ويلزيين وليس بريطانيين ، كما يعتبر الكنديون الناطقون بالفرنسية أنفسهم كنديين فرنسيين ، بغض النظر الاعتبارات الأخرى كمكان الإقامة (كوبيك) أو مذهبهم الديني (الكاثوليكية) أو حتى كون ألقابهم فرنسية أم لا. كذلك نجد أثر الهوية والانتماء إلى الناطقين بلهجة ما في المجتمع في تخلي الفرد عن تلك اللغة أو اللهجة أو المحافظة عليها. لذلك نجد أن علماء اللغة الاجتماعيين (من أمثال فاسولد) يرون ضرورة التأثير على الهوية والانتماء الاجتماعي لأفراد الجماعة اللغوية لضمان نجاح التخطيط اللغوي الذي يسعى إلى دعم لغة أولهجة ما في المجتمع .

جدير بالذكر أنه يرى بعض المفكرين العرب أن الشعوبية كانت في ظاهرها حربا على العرب والعربية ، ولكنها كانت في حقيقتها حربا مبطنة على الهوية الإسلامية (حيث إن كثيرين من دعاة الشعوبية كانوا من الفرس الذين اعتنقوا الاسلام نفاقا أو رهبة لا رغبة)، من ثم وجد هؤلاء هذه الطريق غير المباشرة وسيلة لإعلان الحرب على الإسلام والمسلمين، انتقاما لهويتهم القومية الفارسية.

من الواضح أيضا أن قوى الاستعمار النصراني كانت دائمة على وعي بهذا الدور الخطير للغة في تحديد هوية الأمم ونفخ روح المقاومة لديها ، فكانت اللغة من أول ما سعى المستعمرون وكذلك المنصرون إلى محاربته أو التأثير فيه ، كما حاولت أن تفعل في العالم العربي ، حيث فرض المستعمر الأوربي هيمنة الفرنسية على المغرب العربي وحاول البريطانيون الدعوة إلى العامية لمحاربة العربية التي كانت روح الهوية العربية الإسلامية التي كانت له بالمرصاد. بل إنني أزعم أن كثيرا من الجهود المبذولة لدعم بعض اللغات في العالم العربي ، كالأمازيغية في المغرب هي جزء من ذلك المخطط لتفتيت المجتمع العربي المسلم وخلق بلبلة في هوية فئات كبير منه .

من هنا أيضا نجد الجهود الذي بذلها أعداء الإسلام في حربهم للهوية الإسلامية لدى الشعوب الإسلامية ، فكان أضعف الإيمان لديهم تغيير نظام الكتابة للغات هذه الأمم من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني ، بدءا بقرار كمال أتاتورك (الذي كان أحد أفراد جماعة الدونمة اليهودية التي اعتنقت الاسلام نفاقا ولمصالح قومية وشخصية ) بمحاربة الحرف العربي وآثار اللغة العربية في اللغة التركية واستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني. وقد نجح للأسف هذا المخطط الاستعماري في جعل معظم الدول الإسلامية تتحول في كتابة لغاتها من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني سواء في جنوب شرق آسيا أم في دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.

الخاتمة:

  مما سبق تتضح لنا العلاقة الوطيدة بين الهويتين الشخصية والقومية باللغة ، ونعلم أن دعم اللغة والعمل على تعزيز مكانتها إنما هو دعم للهوية في جانبيها الشخصي والجماعي. كما أن تنمية الوعي بالهوية مفتاح لتعزيز اللغة التي نعبر بها عن هوياتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق